العنف الأسري في صيغته الحكومية

د.نايف المطوع

إن الآباء والأمهات الذين يفشلون في تأديب أبنائهم بشكل صحيح، يقومون في واقع الأمر بإنشاء جيل من الأطفال الغاضبين. يمكن أن يكون الطفل عدوانياً أكثر بمرتين إن كان العنف من سمات سلوك والديه، أو إن كان والداه لا يضبطان اخطاءه السلوكية بشكل منتظم ومتناسق. وفي المقابل، يمكن أيضا لنفس الطفل أن يكون ذا سلوك جيد تحت رعاية والدين حريصين على تطبيق القواعد السلوكية. لكن ماذا لو أن حكومتكم كانت في وارد التصرف مثل الوالدين؟ ماذا لو أنها قامت بتوفير كل شيء ابتداءً من الدخل والإسكان ومروراً بالتعويضات وانتهاءً بالرعاية الصحية والتربية، لكنها في نفس الوقت ظلت غير حازمة بشأن القواعد والقوانين؟ هل يمكن لذلك أن يتسبب في ميلاد ثقافة صراع وعنف؟.

في شهر ديسمبر الأخير، دخل طبيب أسنان لبناني، ترعرع في كنف امرأة كويتية، في مشادة مع شباب آخرين على مواقف السيارات بمجمع الأفنيوز بالكويت. ودخل أحد الذين دخلوا معه في هذه المشادة، إلى سوق موجود بنفس المجمع، واشترى سكيناً طعن به طبيب الأسنان ليطرحه صريعاً. كانت هذه بداية موجة حوادث سلوكية أدت إلى العديد من الصراعات بالسكاكين والموت على تراب الكويت خلال السنة الماضية. شهران بعد ذلك، أصبح الدخول إلى قاعة سينما في الكويت شبيها بتدقيق ركاب الطائرات. القواعد المتعلقة بالسن القانونية لمشاهدة الأفلام أصبحت قابلة للتطبيق مع بطاقات الهوية التي تصدرها الحكومة. لا مجال لارتكاب الاخطاء. لكن عندما يتعلق الأمر بمن يسمح له بمشاهدة الأفلام، فإن الحكومة هي من أصبحت تضطلع بدور الوالدين. وهكذا، يبدو أن أحدهم قام بالتنقيب في عناوين الأخبار في عقد الثمانينات، وربط بين عنف مشاهد التلفزيون والعنف على الواقع، وقرر تطبيقه لاحقاً بعد 40 سنة. في الواقع، هناك بحث يقر أن أطفال التسع سنوات الذين يشاهدون مشاهد تلفزية عنيفة، هم أكثر عرضة لاكتساب السلوكيات العنيفة عند بلوغهم سن 19. الأمر يستحق فعلا نقاشا مطولا ومستفيضا. وانتقلت الحكومة من عدم تطبيق القانون إلى تطبيقه، من الشيء إلى نقيضه.

لمثال الثاني: إن عدد الاستدعاءات الصادرة لدى قيادة النساء المنتقبات للسيارات في تراجع ثابت، وآخر الأرقام من قسم الاحصاءات المركزية يؤكد على ذلك

ففي الوقت الذي بلغ عدد هذه الاستدعاءات 2351 حالة سنة 2005، تراجعت بشكل ثابت إلى 529 حالة سنة 2006، ثم 180 سنة 2007، ثم 102 سنة 2008، ثم 19 سنة 2009 حسب ما جاء في جريدة «الوطن». رسميا، فالكويت تمنع النساء المنتقبات من قيادة السيارات. لكن المسؤولين لم يشرحوا سبب هذا التراجع في الأرقام. جريدة «الوطن» بمبادرة منها، عزته إلى العدد القليل جدا من النساء المنتقبات اللواتي يقدن السيارات، أو بالأحرى إلى امتثال أفضل لقوانين المرور. لكن، تضيف الجريدة، قد يعود السبب أيضا إلى ليونة تعامل أفراد شرطة المرور المعتادون على رؤية النساء المنتقبات وراء مقود السيارة. وبرأيي المتواضع. فإن الأرقام في واقع الأمر لم تتراجع. الذي تراجع هو فقط تطبيق القانون.

لمثال الثالث: في سنة 2011، بدأت إدارة الطيران المدني في تطبيق حظر التدخين، وتم تعميم أن من يخالف القانون سوف يرسل إلى مخفر جليب الشيوخ لتلقي العقوبة. إن كان حظر التدخين قد طبق فعلا، فالواقع أن تطبيقه لم يدم أكثر من 5 دقائق، لأن أول ما تراه وأنت تطأ أرض مطار الكويت، هو تدخين موظفي المطار أنفسهم في تحد سافر للقانون الذي تزين ملصقاته الجدران. في سنة 2013، أقرت الكويت قانوناً يمنع التدخين في كل الأماكن العمومية، بما في ذلك المجمعات التجارية والمطاعم. لكن أول ما تقع عليه عيناك وأنت داخل لأي مجمع تجاري بالكويت، هو الأعداد الهائلة من المدخنين وهم يجولون بين أروقته. يبدو أن الحكومة تنتظر احتراق مجمع تجاري ضخم، أو تنتظر حادثا مروعا لسيارة تقودها امرأة منتقبة. في كلتا الحالتين، فإن القوانين التي لا تطبق أحياناً، وأحياناً أخرى تطبق بتطرف، هي موجز مختصر للرعاية الأسرية التي تؤدي للعنف والصراعات. إن عنف الوالدين الجسدي والمعنوي يبعث بإشارات مبهمة حول حدود ما يسمح به وما لا يسمح به، ويدفع الأطفال لاكتساب سلوكيات عنيفة مرتين أكثر مقارنة مع أطفال لا يخضعون لأي عنف.

إذن كيف نحل هذا المشكل في الكويت؟ الإعلام لا يعكس الواقع فقط، بل يمكنه تغييره. لقد رأينا العديد من المواقف الثقافية تتغير عبر استعمال الإعلام، سواء كانت هذه المواقف تتعلق بالأمريكيين السود بعد العرض الناجح للممثل «كوسبي» في الولايات المتحدة الأمريكية، أو للبرنامج التلفزيوني «الثمن الذي تؤديه المرأة الناجحة» في الصين، والذي يحارب الصورة النمطية للنساء المتخلى عنهن في الصين ويحاول تعويضها بالمعنويات العالية «للمرأة الناجحة»، في إشارة للمرأة غير المتزوجة في وسط وآخر العشرينات من العمر.

في الواقع، فالكويت حظيت بنصيبها من النجاح بعد الغزو العراقي عن طريق استعمال الإعلام لحث الناس على البحث عن المساعدة النفسية. وكأخصائي نفسي متدرب ساعتها، يمكنني التأكيد على العدد الكبير من الناس الذين طرقوا أبوابنا في بداية التسعينات وهم يلومون الغزو العراقي في مشاكل كانوا يعانون منها حتى قبل الغزو بسنوات. في الواقع لا يهم السبب الذي دفع بهم لطب المساعدة ما دام أن طلبهم هذا جاء في وقته وقبل فوات الأوان.

أوصي بشدة أن تميل البرامج التلفزية التي تمولها وزارة الإعلام وجهات أخرى في الكويت، والتي تعكس بشكل كبير مشاهد العنف والتراجيديا والتشتت العائلي، نحو رؤية أكثر اعتدالاً. يجب أن ينصب التركيز نحو الوجهة التي يجب أن يأخذها المجتمع، وليس نحو المكان الذي يوجد فيه، خاصة لو أن مكان تواجده ليس بما يبعث على الفخر.

لو أرادت وزارة الإعلام أن تقوم برقابتها، لكن أجدر لها أن تترك «المحبة» تدخل بيوتنا، وتزيل معها «العنف»، أو أن تترك «المحبة» و«العنف» في حالهما يتوازيان فيما بينهما باعتدال كأضعف الإيمان. لسنا بحاجة لانتظار حدوث مجزرة في مجمع تجاري أو احتراق مطار مهول أو حادث سيارة مروع تتسبب فيه امرأة منتقبة، كي ننطلق للعمل. بعد أن تقع الواقعة، فإننا ببساطة نتحول من حالة قصوى إلى نقيضها الأقصى، وهذا في حد ذاته لا يحل المشكلة، بقدر ما يؤدي إلى حدوث مزيد من العنف في المجتمع.

لو أن الحكومة أرادت أن تقوم بمهام الوالدين، أوصي بضرورة تطبيق متناسق للقوانين، لأن الانتقال من الشيء إلى ضده، لا يزيد إلا الطين بلة، ويسبب المزيد من العنف والصراعات. فإما أن يمنع التدخين أو يسمح به قانونياً. إما تمنع النساء المنقبات من قيادة السيارات أو يسمح لهن بذلك قانونياً. ليس من المنطق الادعاء أن أمراً ما هو غير قانوني، ومع ذلك تجهده مستفحلاً ولا أحد يمنعه. هذه الحالة هي ما تؤدي إلى مجتمع عنيف، ومع الأسف فنحن ذاهبون من سيء إلي أسوأ.

وفقط عندما تصبح قواعدنا متناسقة، وقوانيننا نافذة، ومجتمعنا أقل عنفا، ساعتها يمكن لتصنيف المنتدى الاقتصادي العالمي للدول الأكثر ودية مع الآخرين أن يعيد نظره في تصنيف الكويت كرابع دولة أقلّ ودية مع الآخرين في العالم. لا يسع المرء إلا أن يأمل في الأفضل

الدكتور نايف عبدالرحمن المطوع عضو هيئة التدريس بكلية الطب- جامعة الكويت مؤسس مركز السور للاستشارات النفسية